ملخص المقال
الحياء خير كله ولا يأتي إلا بخير، وحقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، وأما قلة الأدب ونكران الجميل فهو خلق مذموم
زعموا أن أعرابيًّا من بلاد الشام انطلق للحج على دابته، وسار قاطعًا الصحراء باتجاه مكة المكرمة، وفي الطريق التقى برجل تقطعت به السبل فلا ماء ولا طعام ولا دابة، فحمله على دابته حتى وصلا إلى واحة، فقام بتقديم الطعام والشراب للغريب، حتى إذا اطمأنت نفسه وهدأت، غافل صاحب الدابة وركبها وانطلق هاربًا، دون أن يترك هذا المعروف والإحسان أي انطباع في نفس هذا الغريب، وقبل أن يختفي عن الأنظار ناداه صاحب الدابة، فالتفت إليه الغريب، فقال له صاحب الدابة: ليس مهمًّا أن تأخذ دابتي، ولكن لا تخبر بفعلتك أحدًا حتى لا تنعدم المروءة بين الناس. وانطلق الغريب لا يلوي على شيء.
ومن أيام وأنا أحاول أن أتواصل مع أحد أصدقائي، مللت وأنا أدق عليه، ولا يجيبني سوى صوت الحسناء، وهي تخبرني بأن الرقم المطلوب إما أن يكون خارج نطاق التغطية، وإما أن يكون مغلقًا، لله درها لا تكل ولا تمل! ومرت أيام وأنا على محاولاتي وهي على جوابها، بعدها قررت أن أذهب إليه لأطمئن عليه، ولأعرف منه خبر هاتفه وقصة تلك الحسناء التي أثارني هدوءها، ووجدت صديقي الطيب فوق العادة، سليمًا معافى، وكل ما في الأمر أنه قد خسر هاتفه ومحفظته الشخصية، فقد استنجد به أحدهم وطلب منه مكانًا ينام فيه وبعض الفلوس، فما كان من صاحبي إلا أن وفر له طعامًا وشرابًا ومبيتًا، ووضع أم عامر في بيته واطمأن لها، ولم يستيقظ إلا واللئيم قد ذهب وبحوزته جهازه ومحفظته، وباب مغلق خلفه.
موقف صديقي الطيب مع أمهات عامر كثيرة، كان يقابله بحمد الله وشكره، وكان يدفعني إلا أن أعاتبه على طيبته وحيائه، ولكنني أتذكر قصة الرجلين اللذين كان يعاتب إحداهما على حيائه، وهو يقول له: إنك تستحي! وكأنه يريد أن يقول: إن الحياء قد أضر بك، فزجره رسول الله r وقال: "دعه، فإن الحياء لا يأتي إلا بخير"[1]. فأتوقف وأمسك، فصديقي، وسط ملاحظة عابرة بألاَّ يثق بإنسان إلا بعد تجربته ومعرف أخلاقه، مدركًا أن حياءه هذا لا يأتيه إلا بالخير، فحياؤه هذا لم يكن يمنعه من أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، فأينما وجدته يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، وكثيرًا ما تجد كلماته تلقى طريقها إلى القلوب وتعمل عملها في النفوس..
فإذا ركب سيارة أو استقل حافلة طلب من صاحبها أن يغلق الأغاني، وإذا رأى رجلاً يدخن في مكان عام أو بداخل حافلة، يأمره وبكل أدب أن يتخلص من سيجارته، مرفقًا ذلك بعبارات لطيفة، وتذكرة بضرر هذا السم على المدخن وغيره، وإذا مرت به فتاة محجبة قد أظهرت قدمها بدون أن تقوم بتغطيتها، فيمر بجانبها وبدون أن يلتفت إليها ويكلمها: يا أختاه، بارك الله بك، لا يجوز أن تكشفي عن قدمك فهي عورة. والأصل في إظهار القدم التحريم، وهذا أمر شاع بين أخواتنا المحجبات، فبتنا يخرجن وأقدامهن مكشوفة غير مستورة، في حين أن هذا مخالفة واضحة وبينة للشرع؛ فالقدم عورة والكشف عنها أمر محرم عند جميع المذاهب، ولا خلاف فيه البتة.
وكأن حال صاحبي الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر، والصابر على ما أصابه، كما قال الإمام النووي رحمه الله: "وأما كون الحياء خيرًا كله، ولا يأتي إلا بخير، فقد يشكل على بعض الناس من حيث إن صاحب الحياء قد يستحيي أن يواجه بالحق من يجله، فيترك أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، وقد يحمله الحياء على الإخلال ببعض الحقوق وغير ذلك مما هو معروف في العادة، وجواب ذلك ما أجاب به جماعة من الأئمة منهم الشيخ أبو عمرو بن الصلاح رحمه الله: إن هذا المانع الذي ذكرناه ليس بحياء حقيقة بل هو عجز وخور ومهانة، وإنما تسميته حياء من إطلاق بعض أهل العرف، أطلقوه مجازًا لمشابهته الحياء الحقيقي، وإنما حقيقة الحياء خلق يبعث على ترك القبيح، ويمنع التقصير في حق ذي الحق، ونحو هذا"[2]. فلله در حيائه! ولله ما أروعه في إكرامه للناس، وإحسان الظن بهم! وما أبهاه وما أصبره:
يُغضي حياء ويُغضى من مهابته *** فلا يكلم إلا حين يبتسم
وأما أنتم يا أمهات عامر، يا عديمي الشرف وفاقدي الكرامة، يا من لا تعرفون معنى أن يكون الإنسان صاحب حياء وصاحب مروءة، يا من أمرتم بالمنكر ونهيتهم عن المعروف، فيكفيكم قول رسول الله r: "إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلامِ النُّبُوَّةِ الأولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْىِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ"[3]. ورحم الله المتنبي، عندما قال:
إذا أنت أكرمت الكريم ملكته *** وإن أنت أكرمت اللئيم تمردا
التعليقات
إرسال تعليقك