ملخص المقال
اطلعت على مقال رشيد أحمد المعنون باسم: "الحروب الصليبية كما يراها العرب ويراها راغب السرجاني"؛ حيث حشا مقالته تلك بالكذب وتشويه الحقائق...
اطلعت على مقال الأستاذ رشيد السيد أحمد المعنون باسم: "الحروب الصليبية كما يراها العرب ويراها راغب السرجاني"، والذي أرسله لي أحد أصدقائي على الإيميل، حيث حشا مقالته تلك بالكذب وتشويه الحقائق، ورمي الآخرين بدائه اللعين وهرب.
والحقيقة أنني كلما قرأت كتابًا من كتبهم يتحدث عن عقيدتهم أو رواية من روايتهم في التاريخ، إلا وتبين لي أن هذا الدين لا يقوم إلا على ما بنوا عليه عقيدتهم من نفاق وكذب وتقيَّة، وكلما رأيت تضارب رواياتهم بعضها ببعض، ونفي كل رواية لما قررته أخرى قبلها، إلا ازددت يقينًا بأن علماءنا لم يظلموهم حقهم أبدًا، ولم يغالوا عندما اتهموهم بالكذب والخداع، وأنهم يكذبون الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وآل بيته ثم يتخذونه دينًا، فمن أعمل لسانه وجوارحه في لعن الجيل الأول بعد رسول الله فلن يقصر فيما سواهم.
وهذه الحقيقة هي التي وصل إليها الشيخ موسى جار الله التركستاني شيخ مشايخ روسيا، والذي كان من أشد الداعين إلى الوحدة بين السنة والشيعة، وهو صاحب الرسالة التي يدعو فيها إلى اعتبار الشيعة مذهبًا خامسًا، وقدم إليهم وعاش بينهم سبعة أشهر، درس خلالها عقيدتهم ووصل إلى ستة قضايا يقوم عليها هذا المذهب ولفتت انتباهه، وهي مسالة تكفير الصحابة، ومسألة اللعنات على العصر الأول، ومسألة تحريف القرآن الكريم، ومسألة أن حكومات الدولة الإسلامية وقضاتها وكل علمائها طواغيت في كتب الشيعة، ومسألة أن كل الفرق الإسلامية كافرة ملعونة خالدة في النار إلا الشيعة، ومسألة أن الجهاد في كتب الشيعة مع غير الإمام المفترض طاعته حرام مثل حرمة الميتة وحرمة الخنزير، ولا شهيد إلا الشيعة، والشيعي شهيد ولو مات على فراشه، والذين يقاتلون في سبيل الله من غير الشيعة فالويل يتعجلون.
وبعد أن وصل إلى تأصيل عقيدة الشيعة من كتبهم، قام -رحمه الله - بإرسال رسالة مخاطبًا بها شيوخ الشيعة: "هذه ست من المسائل، عقيدة الشيعة فيها يقين، فهل يبقى في توحيد المسلمين في عالم الإسلام من أمل، وهذه عقيدة الشيعة؟! وهل يبقى بعد هذه المسائل، بعد هذه العقيدة لكلمة التوحيد في قلوب أهلها من أثر؟ وهل يمكن أن يكون للأمم الإسلامية -ولهم هذه العقيدة- في سبيل غلبة الإسلام في مستقبل الأيام من سعي؟".
ثم خاطب الشيخ -رحمه الله- الآيات في قم ونجف طالبًا منهم أن يجيبوه على هذه المسائل: "فتفضلوا أيها السادة بالإفادة حتى يتحد الإسلام وتجتمع كلمة المسلمين حول كتاب الله المبين"، ولكن محاولته تلك ذهبت أدراج الرياح، وانتظر الرد سنة وزيادة ولم يسمع جوابًا من أحد، إلا من كبير مجتهدي الشيعة بالبصرة، فيقول -رحمه الله-: "فقد قام بوظيفته وتفضل عليَّ بكل أجوبتها في كتاب تزيد صفحاته على تسعين، بكلمات في الطعن في العصر الأول أشد وأجرح من كتب الشيعة". وبعدها لما يأس الشيخ من جواب على مسألته تلك كتب كتابه "الشيعة في نقد عقائد الشيعة" يقول فيه: "إنني دافعت بذلك عن شرف الأمة وحرمة الدين، وأقضي به حقوق العصر الأول عليَّ، وعلى كل الأمة"[1].
وقد بدأ كاتبنا القدير -كما هو حال أغلب مقالاته- في مهاجمة اتفاق المسلمين على أن تكون الخلافة في قريش، والطعن في إجماعهم هذا، وكأني به يريدها أن تكون في بني قومه من الباطنية!! ثم بعد هذا يتبجح بكل وقاحة وطائفية وجنسية عندما يصف الخلفاء بقوله: "حيث إن هذه (الشعوب العربية والمسلمة) لم تستطع أن تضع رقابة واضحة على (الجهاز البولي التناسلي) لأمراء المؤمنين". وهذه التهمة لم نجدها عن أحد من الكُتَّاب الذين دعاهم بالكتاب الكلاسيكيين، والذي ادّعى أنه ينقل عنهم، وهم الذين تتبرأ ألسنتهم عما قذفهم به هذا الكاتب الطائفي. ومما نقله لنا ابن كثير عن الخليفة المستظهر بالله: "هو أبو العباس أحمد بن المقتدي، كان خيرًا فاضلاً ذكيًّا بارعًا، كتب الخط المنسوب، وكانت أيامه ببغداد كأنها الأعياد، وكان راعيًا في البر والخير، مسارعًا إلى ذلك، لا يرد سائلاً، وكان جميل العشرة لا يصغي إلى أقوال الوشاة من الناس، ولا يثق بالمباشرين، وقد ضبط أمور الخلافة جيدًا، وأحكمها وعلمها، وكان لديه علم كثير"[2].
ثم يذكر لنا ترجمة للخليفة المسترشد الذي حاول أن يعيد إلى الخلافة مكانتها، ولكنه قُتل على يد الباطنية سنة 529هـ: "وقد كان المسترشد شجاعًا مقدامًا بعيد الهمة فصيحًا بليغًا، عذب الكلام حسن الإيراد، مليح الخط، كثير العبادة محببًا إلى العامة والخاصة، وهو آخر خليفة رُئي خطيبًا"[3].
ولكن كاتبنا الطائفي استغل الضعف الذي تمر به الأمة الإسلامية نتيجة ابتعادها عن شرع الله وتركها للجهاد، وميلها إلى الركون إلى الدنيا، وتركها ما فرض الله عليها، وتسليط الله عليها ذلاًّ وهوانًا، وركب رقاب المسلمين أعداؤهم وتملكوا ديارهم ونهبوا خيراتهم، ولم يرفع عنهم هذا الذل إلا بالعودة إلى الجهاد، فقام كاتبنا بالتركيز على أعمال بعض الخلفاء والسلاطين والولاة وركونهم إلى الدنيا، وأعمل مِبضعه في جسد هذه الأمة تشويهًا وتمزيقًا، وصوّر رجالات الأمة بأنهم زناة وشُرَّاب خمر وركّاب غلمان، لم يستثن بهذا أحدًا، سواء منهم الراكنون إلى الدنيا وزخرفها وزينتها أم الذين وجدوا أنفسهم في هذا الواقع فلم يستسلموا لواقعهم، وإنما حملوا سلاحهم وأرواحهم في سبيل الله حتى مكّن الله لهم النصر واستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم، ينشرون الأمن والعدل في الأرض.
وبعد أن ركز على الحالة التي كانت الأمة الإسلامية تعيشها أثناء الحروب الصليبية، ووضع عليها مجهرًا مكبرًا وواقعًا مشوهًا وافتراءات ما أنزل الله بها من سلطان، عمد إلى إغفال دور السلاطين المجاهدين، وخصوصًا ولاة الموصل ومنهم السلطان جكرمش، الذي كان أول من انتصر على الصليبيين، وذلك بعد الهزائم التي حلت بالأمة ودخولهم المسجد الأقصى، في معركة حران سنة 498هـ، والسلطان قلج أرسلان صاحب سلاجقة الروم، والسلطان مودود بن التونتكين الذي سحق الفرنجة في معركة الصنبورة سنة 507هـ بعد تحالفٍ اشترك به صاحب مردين إيلغازي وصاحب تبريز وصاحب دمشق وغيرهم. وتلاه مقتل السلطان مودود على يد الباطنية من جديد بعد دخوله دمشق منتصرًا، وركز على السلطان إيلغازي وابن عمه بلك بن بهرام ثم والي الموصل آق سنقر البرسقي الذي قُتل على يد الإسماعيلية الملاحدة، إخوة الإسماعيلية العبيدية في مصر في الدين والعقيدة، والذي كان أكبر مهامهم مساعدة الصليبيين في التخلص من قادة الجهاد الذين ظهروا في هذا الوقت.
وعاد ليغفل والي الموصل الجديد عماد الدين الذي قُتل على يد الباطنية كذلك، وابنه نور الدين الذي توّج جهادهم في زمن صلاح الدين -رحمه الله- ووحّد البلاد الإسلامية تحت قيادته وقضى على الدولة الإسماعيلية العبيدية، وتوجها بتحرير بيت المقدس من يد الفرنجة الصليبيين. ثم عمد إلى الأخذ بشخصية لم تأخذ من ابن العديم وغيره من المؤرخين، سوى بضعة أسطر عند الحديث عنها، بينما عندما تحدث ابن العديم، وهو الناقل الأساسي لهذه الأحداث لأنه كان معاصرًا لها، عن ترجمة قائد مثل آق سنقر أو عماد الدين أفرد لهم عشرات الصفحات، ولكن كاتبنا القدير وضع مجهره عليها من جديد وكبرها وضخمها، لا لشيء إلا لأن القاضي ابن الخشاب كان شيعيًّا كما هو حال كاتبنا، ولم يهمل علماؤنا ذكر دور هذه الشخصية التي عملت مع أهل حلب كغيرها في الدفاع عن مدينة حلب، وأنزلوها حيث أراد لها الواقع أن تنزل، ولم يهملوها وإنما ذكروا أعمالها وسجلوها في كتبهم، ولم يكن كُتَّابنا في هذه عنصريين أو طائفيين -ومنهم الصلابي جزاه الله خيرًا، بخلاف كاتبنا الذي تطفح الطائفية من ثنايا كتاباته جميعها- عندما ذكروا خروج القاضي إلى ساحة المعركة وتشجعيه الجنود وخطبته المؤثرة بهم وبكاءهم؛ مما ذكى الحماسة بهم واندفعوا لقتال أعدائهم، ونصرهم الله عليهم بقيادة إيلغازي سنة 513هـ في (موقعة تل عفرين)، ولم يصفوا هذا الشيخ بأنه شيعي.
يقول ابن العديم -رحمه الله-: "وأقبل القاضي أبو الفضل بن الخشاب يحرض الناس على القتال، وهو راكب على حجر وبيده رمح، فأقبل على الناس وخطبهم خطبة بليغة استنهض فيها عزائمهم، واسترهف هممهم بين الصفين، فأبكى الناس وعظم في أعينهم"[4]. وهذا ما نقله الصلابي عن ابن العديم، ولم يضيفا إلى القاضي كلمة الشيعي كما أراد كاتبنا لهذه الإضافة أن تكون، بل حتى إن طائفيته منعته أن يدرك أن الكلام ليس للصلابي وإنما هو منقول عن ابن العديم، فيقول: "الأمر بكل البساطة هو إطلاق صفة الباطنية على كل ما هو غير سني، (والأفضل أن أقول غير وهابي)؛ لأن الصلابي والسرجاني (ينتميان إلى المشروع الوهابي الذي تقوده المخابرات السعودية والمصرية والأمريكية)، وعليه فحتى لا يناقض الصلابي طرحه الفئوي.. أغفل (الشيعي) عن قصد، وعن سابق تصميم".
وكأني بكاتبنا العنصري يريد أن يتهم ابن العديم بالوهابية، أو أنه أحد رجال مخابرات الفرنجة!! وهذه هي التهمة التي توجه من قِبل أعداء الإسلام إلى كل مدافع عنه!! مما يؤكد أن هؤلاء الأبطال الذين أغفلهم كاتبنا القدير لم يكن إلا عن قصد وسابق تصميم، وخصوصًا تجاهله انتصار جكرمش في حران، وانتصار مودود في الصنبورة، وحاول أن يوهمنا بأنه لم يكن هناك أي مجاهد قبل موقعة تل عفرين من خلال الطعن في حاكم دمشق المجاهد طغتكين، ليصل بنا إلى ما قاله: "حيث استطاع بفضل قوة شكيمته، ومتانة خلقه أن يوقظ العملاق الغارق في سباته الذي هو العالم العربي، فتحول دخوله إلى مسجد السلطان العباسي، وكسره المنبر، إلى بداية الغليان الشعبي الذي سيخرج القيادات الشجاعة التي ستحطم أسطورة الغزو الإفرنجي"، محاولاً أن يرضي نفسيته المريضة بأن الموقعة التي شارك بها القاضي ابن الخشاب سنة 513هـ كانت أول انتصار للمسلمين، وأنه لولا هذا القاضي لما وجدت تلك القيادات الشجاعة أبدًا.
ثم يواصل كاتبنا الكذب على التاريخ فيقول إن ابن الخشاب كان يحارب الباطنية الإسماعيلية مدة أربعة عشر عامًا، وهذا الكلام لم تنقله لنا إلا مخيلة الكاتب، ولم يذكره أي كتاب من كتب التاريخ التي ذكرها، وإنما الذي قضى على الباطنية في حلب هو السلطان ألب أرسلان بن السلطان رضوان، والذي كال لهم كاتبنا أبشع الأوصاف وأقذرها، وذلك عندما قام بإيقاع مذبحة رهيبة بهم وتخلص من زعيمهم أبي الطاهر الصائغ، وبعد وفاة ألب أرسلان عادت أمور حلب من جديد بيد الباطنية، إلا أن تملكها السلطان بلك بن بهرام صاحب مردين، وذلك كما ذكره ابن العديم بقوله: "وفي المحرم من سنة ثماني عشرة وخمسمائة، تنكر بلك على رئيس حلب سلمان العجلاني وجعل عليها رجلاً من أهل حران اسمه محمد بن سعدان، ويعرف بابن سعدانة، وكثر الأمن من الذعار وقطاع الطريق عند قدوم بلك حلب، وأقام الهيبة العظيمة، وتقدم بفتح أبواب حلب ليلاً ونهارًا، وحسم مادة أرباب الفساد، وقال للحارس: إن عدت سمعتك تصيح ضربت عنقك"[5].
وبقيت دمشق وحلب نهبًا للباطنية من جديد، حتى وصل الأمر بهم أن يقوموا بتسيلم دمشق للفرنجة، ولكن السلطان بوري بن طغتكين علم بخيانتهم، وقتل وزيره المزدقاني الذي كان يساعدهم، وأوقع بالباطنية مقتلة عظيمة، وقيل إنه قتل ستة آلاف شخص وذلك سنة 523هـ، ويبدو لي أن القاضي ابن الخشاب كان ناجحًا -في عقلية كاتبنا المتوقدة والطائفية- أن يصنع أبطال الجهاد، في الوقت الذي ظهر به فاشلاً فلم يستطع أن يحافظ على هدوء وأمن حلب، إلا أن قام بهذه المهمة كل من السلاطين ألب أرسلان وبلك وبوري، وقاموا بهذه المهمة بدلاً منه!!
ثم يقول كاتبنا إنه نتيجة لهذا تم قتله على يد الباطنية الحشاشة، وهذه كذبة على التاريخ وكذب عما نقل عن المؤرخين، كما لم يفعله أحد من الكُتَّاب الثقة، عندما ادّعى أن القاضي ابن الخشاب قتل على يد الباطنية أتباع حسن الصباح، والحقيقة التي نقلها ابن العديم وغيره تقول إنه تم قتله على يد الملك الصالح بن نور الدين زنكي، بعد الفتنة التي أوقدت بين السنة والشيعة في حلب سنة 570هـ، وبمقتله تم إخماد هذه الفتنة. ولا أدري إذا ما كان كاتبنا يريد أن يقول إن أتباع ابن الصباح هم جنود نور الدين وأولاده من بعده!! وما إهمال كاتبنا لعماد الدين وابنه نور الدين وصلاح الدين، إلا لأنهم قضوا على دولته الدولة العبيدية الفاطمية، والتي أراد أن يدافع عنها بأي وسيلة.
وكل هذا ليس مهمًّا لكاتبنا النابغة، فالمهم لديه أن يكذب وينقل التاريخ كما يريد له ضميره الفاسد وعقليته النتنة، وأن يطعن في حُكَّام الأمة الإسلامية وسلاطينها وعلمائها، وهو ما يعتقده واجبًا لا بد أن يقوم به تجاه عقيدته، وإن كان في هذا لوي لأعنق النصوص كما حاول أن يتهم بهذا غيره، وهو ما يمليه عليه ضميره تجاه إخوته وأبناء عقيدته الذين سبقوه بالسب والقدح والذم والتجريح، وهذا يوضح جليًّا حقيقة ما وصل إليه الشيخ موسى جار الله في كتابه الذي دافع به عن شرف هذه الأمة وحرمة الدين. وصدق الله إذ يؤكد أن وحيه لا يناقض بعضه ولا اختلاف فيه: {أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلاَفًا كَثِيرًا} [النساء: 82]. وإنما كان حال هؤلاء الذين اتخذوا الكذب والنفاق عقيدة أن فضحهم الله وبيّن شذوذهم وكذبهم ودجلهم وشعوذتهم والأساطير التي تكذب بعضها بعضًا، ووضّح انحرافهم وأنهم قد ضلوا عن سبيل الله وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل، لكل ذي لب وعقل ممن فتح الله عليهم فهداهم إلى سواء السبيل، لا كما هو حال الذين ينظرون إلى هذه الحقائق ولكنهم لا يبصرونها، فكان حالهم كالأنعام بل هم أضل سبيل.
وأما مسألة الاستخلاف والتمكين والتي تتلوها ظهور الخلافات والتفرق وتسلط الأمم على الأمة الإسلامية، فهي سُنَّة الله في خلقه والتي تقضي بأن الإنسان ما التزم بنهج الله وسار عليه، فإن له من الله النصر والتمكين والاستخلاف، وما ابتعد عنه إلا سلط الله عليه ذلاًّ، لا يرفعه عنه إلا إذا عاد إلى الطريق السويّ، وحمل سلاحه في وجه الطواغيت. وهذا ما كان عليه السلاجقة في بداية حكمهم والذين مكّنهم الله من رفع الذل والهوان عن خليفة المسلمين في بغداد، وتم لهم القضاء على الدولة البويهية، والانتصار على أعداء الخليفة من الباطنية والروم، وتوّج هذا في زمن السلطان ألب أرسلان وانتصاره على الإمبراطور الروماني أرمانوس الرابع وأسره، ومن بعدها بدأت السلاجقة تميل إلى الضعف والانقسام، فاستبدلهم الله بالزنكيين وبعدهم بالأيوبيين. ولما ضعف الأيوبيون استبدلهم الله بالمماليك، وبعدها سخر الله العثمانيين الذين حملوا راية الجهاد قرونًا طويلة، وفتح الله على يدهم القسطنطينية وكثير من البلاد الأوربية، وبقوا أقوياء ما داموا ملتزمين شرع الله يجاهدون في سبيله، وبدأت تضعف قوتهم وتخور وتذهب ريحهم، عندما تركوا الجهاد ومالوا إلى حياة السكون والترف، فذهبت ريحهم كما ذهبت ريح من سبقهم.
وتلك سنة الله في خلقه، كلما ركنت جماعة من المسلمين إلى الهدوء وتركوا الجهاد، أبدلهم الله بأناس خيرًا منهم، فأعادوا إلى الإسلام عزته ورونقه وبهاءه. وبين هذه وتلك، بين النزع والاستخلاف تجد أعداء الإسلام يستغلون هذه الأوضاع ليطعنوا في تاريخه ويشوهوا الحقائق، ومن هذه محاولة كاتبنا في مقاله، ولكن الله يأبى إلا أن يتم نوره ويقذف بالحق على الباطل فيدمغه، فكشفت جليًّا ألاعيبه وأراجيفه، إذ لا شيء أسهل من أن تلقي بعدوك تهمة الإرهاب أو التطرف أو الوهابية أو السلفية، أو أن تربطهم بالحكام، خصوصًا أن الواقع الذي جرت فيه الحروب الصليبية هو نفس الواقع الذي نعيشه الآن، وإنْ اختلفت الوجوه وتبدلت الأشكال؛ فالباطنية اليوم يشاركون الصليبيين الجدد دخول بلاد المسلمين، وذلك كما صرح رفسنجاني وخاتمي ونجاد والأبطحي بأنهم شاركوا القوات الأمريكية في دخول كابول وبغداد، ولولا مساعدتهم لهم لما تمكنوا من دخولهما.
ويسخِّرون من أنفسهم حُرَّاسًا للحدود اليهودية كما آل عليه حال الطبل الأجوف نصر الله، وذلك بعد معركته الدون كشيوتية والتي انسحب على إثرها اليهود من لبنان، جاعلين منه حارسًا لحدودهم، وذلك كما نصت عليه الاتفاقيات التي وقع عليها، في الوقت الذي ظهر فيه كبطلٍ تاريخي، ولكن للحقيقة والتاريخ فإنه لم يكون سوى بطلاً دون كيشيوتيًّا. وذلك كما قام به البطل أتاتورك في بداية القرن المنصرم، حيث انسحبت أمامه القوات البريطانية التي كانت تحتل إسطنبول، وانهزمت من دون أن يرفع بوجهها أي سلاح؛ ونتيجة لتلك البطولات الدون كيشيوتية تم القضاء على دولة الخلافة الإسلامية، وإزالتها من الوجود، وهو نفس ما قام به الطبل الأجوف في لبنان، ولم يعد سوى حارسًا وحارسًا فقط؟! ومن أجل هذا كله كان جديرًا بأن تكافئه بريطانيا فتشطب حزبه من قوائم الإرهاب، وتشاركهم في هذا قيادات خائنة ممن يدعون أنفسهم إلى أهل السنة، وذلك كما كان عليه حال الأمة الإسلامية زمن الحروب الصليبية الأولى.
والغريب في الأمر أن يدعي عملاء اليهود والغرب الصليبي وأذنابهم في العراق وأفغانستان وبلاد الشام، الشرفَ، ويلبسون ملابس الأبطال من خلال حروبهم التي أتقنوها برفع الشعارات، بينما هم في واقعهم لا عدو لهم إلا المسلمون، ولا قتلى لهم إلا من أهل السنة، ولا هم لهم كذلك من خلال إعلامهم العميل إلا إثارة الطائفية، والتفريق بين المؤمنين، ولعن الأمة الإسلامية، وتشويه الحقائق التاريخية، كما كان عليه حال كاتبنا، الذي رمى غيره بدائه وانسل هاربًا.
وخيانة الباطنية اليوم إنما تؤكد وتثبت الحقائق الدامغة في خيانة الباطنية بالأمس، والتي نقلها لنا من حاول أن يستشهد بهم كاتبنا من الكتاب الذين وصفهم بالكلاسيكيين، والغريب كذلك أن الباطنيين ما انفكوا يحاولون أن يدافعوا عن خيانة أسلافهم ويلبسونهم ثوب البطولة، حتى قاتل عمر بن الخطاب t بات بطلاً تاريخيًّا، ومزارًا يزوره أهل الرافض إلى اليوم، والدولة العبيدية الخائنة في مصر وأختها الحشاشية في الشام صاروا مضرب المثل في الإقدام والشجاعة؛ لأنهم وقفوا ضد أهل السنة كما حاول أن يقوله لنا كاتبنا القدير ويدافع عن خيانتهم.
وقد كشف عن عقيدتهم العلامة اليمني الفقيه أبو عبد الله محمد بن مالك بن أبي القبائل الحمادي العفاري (ت 459هـ) في كتابه "كشف أسرار الباطنية"، الذي يعتبر من أهم الكتب التي فضحت الباطنية، وخصوصًا أن كاتب الكتاب ادعى انتحاله مذهبهم، وتعمق فيهم، فكشف كثيرًا من العقائد التي كانوا يحاولون إنكارها إذا ما سئلوا عن حقيقتها. ومن هذه الحقائق التي كشفها العلامة اليمني: "حتى إذا جن الليل ودارت الكئوس وحميت الرءوس وطابت النفوس، أحضر جميع أهل هذه الدعوة الملعونة حريمهم فيدخلن عليهم من كل باب، وأطفئوا السرج والشموع، وأخذ كل واحد منهم ما وقع عليه يده، ثم يأمر المقتدي زوجته أن تفعل كفعل الداعي الملعون وجميع المستبين، فيشكره ذلك المخدوع على ما فعل، فيقول له: هذا ليس من فضلي، هذا من فضل مولانا أمير المؤمنين، فاشكروه ولا تكفروه، على ما أطلق من وثاقكم ووضع عنكم أوزاركم، وحط عنكم أثقالكم، وأحل لكم بعض الذي حرم عليكم".
ثم يؤكد الكاتب أنه كتب هذا: "لئلاّ يميل إلى مذهبهم مائل، ولا يصبو إلى مقالتهم لبيب عاقل، ويكون في هذا الكتاب إنذار لمن نظره، وإعذار لمن وقف عليه واعتبره"[6]. ومرورًا بخيانة ابن العلقمي والطوسي اللذين أسقطا بغداد بيد هولاكو، وقتلا الخليفة العباسي المستنصر، ودفاع الباطنية عنهم، وخيانة الدول الصفوية وتحالفها مع البرتغال ومحاولتهم تقاسم بلاد الإسلام بينهما، وتقديس الباطنية لها، وانتهاء بخيانتهم وخيانة العلمانيين من أهل السنة في وقتنا الحالي، والذين اتفقوا جميعًا على أن يجعلوا من أنفسهم أحذية بيد النصارى واليهود، واتحدوا من أجل تشويه ومحاربة كل من سولت له نفسه حمل السلاح لإعلاء كلمة الله في أرضه. ولكن -بإذن الله- فإن التاريخ سيعيد نفسه، وسيكون لهؤلاء القادة والمجاهدين النصر والتمكين والاستخلاف، كما نصر الله المجاهدين من قبلهم، ويُردّ كل محارب للإسلام على عقبيه خاسرًا مخذولاً، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون، والعاقبة للمتقين.
[1] نقلاً عن مقال محاولة الشيخ موسى جار الله للتقريب بين السنة والشيعة، بتصرف.
[2] ابن كثير: البداية والنهاية 12/512.
[3] المصدر السابق 12/529.
[4] ابن العديم: زبدة الحلب 1/95.
[5] ابن العديم: زبدة الحلب بتاريخ حلب 1/101.
[6] العلامة محمد بن مالك: كشف أسرار الباطنية، تحقيق محمد بن علي بن الحسين الأكوع، ص63-71.
التعليقات
إرسال تعليقك