ملخص المقال
تُحْيِي البوسنة هذه الأيام الذكرى 13 لتوقيع اتفاقية دايتون، وسط تَجاذُبات بين الطوائف الثلاث التي تُكَوِّن النسيجَ العِرْقِي والدينِيّ في البوسنة، وهي
تُحْيِي البوسنة هذه الأيام الذكرى 13 لتوقيع اتفاقية دايتون، وسط تَجاذُبات بين الطوائف الثلاث التي تُكَوِّن النسيجَ العِرْقِي والدينِيّ في البوسنة، وهي البوشناق والصِّرْب والكروات؛ حيث اسْتَعَرَت الخلافات حول طبيعة الدولة التي يُراد إقامتُها في البوسنة، وهي خلافات لم تستطع اتفاقية دايتون إخْمَادَها، بل كانت سببًا -في رأي الكثير من المُرَاقِبين- في استمرار النِّزاع حولها. وما إذا كانت دستورًا دائمًا -كما يَرغَب الصِّرْب- أو حلاًّ مؤقتًا كما قيل للبوشناق إبَّان توقيع الاتفاقية في 21 نوفمبر 1995م. ويرى البوشناق -54 % من عدد السكان البالغ نحو 5 ملايين نسمة- أن البوسنة يَجِب أن تكون دولةً مركزية لها جيش واحد وشرطة واحدة ورئيس واحد، وأن تكون دولة مدنية لكل الطوائف، وأن تكون المواطنة هي المِعْيَار الذي تُقاس به حقوق الناس داخل حدود الدولة. لكنَّهم يختلفون بدَوْرهم حول الكيفية التي ينبغي بها تحقيق ذلك؛ فحزب العمل الديمقراطي -على سبيل المثال- يرى أن اتفاقية دايتون لم تُطَبَّق بشكل كامل؛ حيث لا يزال هناك أكثر من مليون مُهَجَّر خارج ديارهم. كما يرى أن أي تغيير يجب أن لا يضرَّ بالاستقرار والسلام السائد منذ 13 سنة. بينما يؤكّد الرئيس حارث سيلاجيتش على أنه يجب إلغاء كيان صِرْب البوسنة، لصالح دولة مركزية، تكون مؤهَّلة للانضمام للاتحاد الأوربي. ويرى الكروات أن البوسنة يجب أن تتحوَّل إلى دولة فيدرالية تتكون من ثلاثة كيانات بعَدَد الطوائف التي فيها، ويعتبرون أن الفيدرالية القائمة بينهم وبين البوشناق وفْقَ اتفاقية واشنطن سنة 1994 والتي تَمّ تَثْبِيتُها في اتفاقية دايتون، لا تعطي للكروات حقوقًا متساويةً مع الطائفتيْن البوشناقية والصربية في البوسنة. وكان عضو مجلس الرئاسة البوسني الدكتور حارث سيلاجيتش قد أكّد في حوار سابق مع الشرق الأوسط على أهمية قيام دولة ديمقراطية في البوسنة، تَحْتَضِن جميع أبنائها بقَطْع النَّظَر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية. ودعا المجتمع الدولي للمساعدة في قيام دولة أوربية تُقاس فيها الأمور بنفس المعايير في دول القارة. ورغم انتهاء الحرب وتوقيع اتفاقية دايتون في 21 نوفمبر 1995 إلا أن نزعات الانفصال أو ما عبّر عنه عضو مجلس الرئاسة البوسني حارث سيلاجيتش بـ"مشروع ميلوشيفيتش" لدى الصرب ظلّت حية. كما أن مشروع قيام كيان ثالث للكروات في البوسنة، والذين أقاموا جمهورية خاصة بهم أثناء الحرب سنة 1993 سَمَّوها هرسك بوسنة- بقي تحت الرَّمَاد وسط غابة بلقانية في صيف مُلْتَهب. ويعتقد الكروات أنَّ البوسنة مُقَسَّمة في الوقت الحاضر وفْقَ ما صرَّح به العضو الكرواتِي في مجلس الشعوب ايفوميرويوسيتش من أن "البوسنة مُقَسَّمة" حاليًا. وأن الفيدرالية مَقْبَرة للكروات. ويؤيِّد الصِّرب - 32 %- قيامَ كيانٍ ثالث للكروات، ويُجَدِّدُون تأكيدهم على ذلك كلما شعروا بأنَّ المكاسب التي حققوها في دايتون ستعصف بها الإصلاحات التي يطالب بها الاتحاد الأوربي. هناك أمران يُثِيران نزعات الصرب للانفصال في البوسنة، هما قضية الإصلاحات الدستورية والتي تشمل قطاع الشرطة والدستور. وهم لا يتوقفون عن جسِّ نَبْض المُجْتَمع الدولي في كل مناسبة تُثار فيها قضية الإصلاحات، فيُجَدّدون بدورهم رَغْبَتهم في الانفصال. وإن كانت نزعة الاستقلال قد وُضِع أمامها خطٌّ أحمر من قِبَل البوشناق والمجتمع الدولي، فإن مطلب الإصلاحات أبقى مجالاً للصِّرب للضرب على وَتَر الانفصال "الإبقاء على اتفاقية دايتون أو انتهاء البوسنة"، كما صرَّح بذلك أكثر من مسئول صِرْبِي داخل البوسنة كرئيس الوزراء ميلوراد دوديك، أو خارجها لا سيما في بلجراد. ومع ذلك تمكّن المجتمع الدولي من توحيد الجيش، لكنه لم يتمكن من توحيد الشرطة بالصيغة التي كانت مقترحة في السابق، واستطاع الصرب الإبقاء على شُرطتهم رغم التغييرات غير الجوهرية التي طَرَأت عليها؛ نظرًا لحساسية الموقف بعد استقلال كوسوفو، والذي جاء على حساب البوسنة أو قُل البوشناق المسلمين فيها، وبكل المقاييس. المجتمع الدولي بدوره يُدْرِك أن بقاء الامتيازات الصربية في البوسنة، وتحقيق مطالب الكُرْوات بامتيازات مماثلة يعني في المحصلة النهائية تقسيم البوسنة. وهو ما حذَّر منه السفير الأمريكي السابق لدى الأمم المتحدة ومهندس اتفاقية دايتون ريتشارد هلبروك. كما حذّر منه السفير الأمريكي في البوسنة تشارلز أنجلش، وهو أن استمرار مطالبة كروات البوسنة بإقامة كيان ثالث خاصٍّ بهم يعتبر إحياءً لمساعي قديمة تهدف لتقسيم البوسنة. كما حدث في اتفاقات بين الرئيسيْن الصربي والكرواتي الهالكين سلوبودان ميلوشيفيتش وفرانيو توجمان. وقال أنجلش، أثناء زيارته لكلية العلوم السياسية في سراييفو: إن "البوسنة يجب أن تظلّ دولة موحدة تتمتع فيها مكوناتها الإثنينة بالحكمة"، وتابع: "الكروات يريدون كيانًا ثالثًا، هذا يعني تقسيم البوسنة، وهو ما لن يحدث أبدًا ". كما شدّد السفير الأمريكي على أن "صرب البوسنة بدورهم يجب أن ينظروا لمستقبلهم داخل البوسنة وليس خارجها، وأي محاولة للانفصال غير مقبولة؛ لأنها تنطوي على أخطار يعرفها الجميع". وقال السفير الأمريكي: "بكل وضوح لن يكون هناك انفصال عن البوسنة ولن يكون هناك كيان ثالث للكروات، ولا يمكن للصرب الاندماج في الاتحاد الأوربي إلا في إطار البوسنة الموحَّدة". كما وجّه أنجلش حديثه للبوشناق البوسنيين: "لا يُمْكِنكم السماح للماضي (فترة الحرب والمخاوف من تكرارها) بأن يُحدّد سياستكم، أو رؤيتكم للإصلاح، وإذا أردتم التقدُّم للأمام فيجب أن يكون هناك ثقة في شركائكم؛ لأنه بدون ذلك لن تكونوا مؤهلين للشراكة الأورأطلسية". وكانت البوسنة قد رفَضَت توقيع اتفاقية مع كرواتيا تَقْضي بمنح كروات البوسنة حقّ حمل جنسيتي البلدين، وأثناء الخلاف البوسني الكرواتي حول إقامة زغرب جسرًا على البحر الإدرياتيكي يمنع مرور السفن إلى الشِّقّ البوسني، اصطف كروات البوسنة إلى جانب كرواتيا، وهو ما يجري على الجانب الصربي بخصوص صربيا، حتى في مباريات كرة القدم بين صربيا وكرواتيا والبوسنة ينحاز الصرب والكروات مع فريقي صربيا وكرواتيا لكرة القدم كلما الْتَقَيا مع فريق البوسنة الدولي. لكن ما يشكو منه البوشناق أن تكون وحدة البوسنة على حسابهم، بحيث يتم إرضاء الصرب والكروات بمناصب وامتيازات تزيد على حجمهم الديمجرافي، ولا سيما في مجال وزارات السيادة كالخارجية والدفاع والداخلية والمالية والعدل، حتى بعد انضمام البلاد للاتحاد الأوربي في السنوات العشر القادمة. ويتساءل الكثير منهم: "ألا يلتزم من يدعوننا للثقة بشركائنا، بنفس القَدْر من الثِّقة تجاهنا"؟! أخبار البشير 24/ 11/ 2008م
التعليقات
إرسال تعليقك